كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَنْ قَالَ بِالْمِثْلِ يُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ عِنْدَ الزَّوَالِ وَالْفَيْءُ قَلِيلٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي فِي الشَّمْسِ أَوْ بِالْقُرْبِ مِنْهَا؛ وَكَذَلِكَ قَالَ خَبَّابٌ: «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا، ثُمَّ قَالَ: أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ» فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوهَا بَعْدَمَا يَفِيءُ الْفَيْءُ، فَهَذَا هُوَ الْإِبْرَادُ الْمَأْمُورُ بِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِالْمِثْلِ.
وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَرُدُّهُ الْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي الْمَوَاقِيتِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْيَوْمَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ»، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ»، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ»، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَ وَقْتَ الْعَصْرِ وَقْتًا لِلظُّهْرِ مَعَ إخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ.
وَقَدْ نَقَلَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَمَلًا وَقَوْلًا، كَمَا نَقَلُوا وَقْتَ الْفَجْرِ وَوَقْتَ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ، وَعَقَلُوا بِتَوْقِيفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ مِنْهَا مَخْصُوصَةٌ بِوَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الْأُخْرَى.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الْأُخْرَى».
وَلَا خِلَافَ أَنَّ تَارِكَ الظُّهْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْعَصْرِ مُفَرِّطٌ؛ فَثَبَتَ أَنَّ لِلظُّهْرِ وَقْتًا مَخْصُوصًا، وَكَذَلِكَ الْعَصْرُ، وَأَنَّ وَقْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَيْرُ وَقْتِ الْأُخْرَى، وَلَوْ كَانَ الْوَقْتَانِ جَمِيعًا وَقْتًا لِلصَّلَاتَيْنِ لَجَازَ أَنْ يُصَلَّى الْعَصْرُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَمَّا كَانَ لِلْجَمْعِ بِعَرَفَةَ خُصُوصِيَّةٌ؛ وَفِي امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ مُنْفَرِدَةٌ بِوَقْتِهَا.
فَإِنْ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وَأَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الزَّوَالُ، وَجُعِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَقْتًا لِلظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي غَسَقِ اللَّيْلِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ الْغُرُوبُ.
قِيلَ لَهُ: ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُرَادٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخَيَّرٍ فِي فِعْلِ الظُّهْرِ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ إلَى اللَّيْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ صَلَاةٌ أُخْرَى يَفْعَلُهَا وَهِيَ إمَّا الْعَصْرُ وَإِمَّا الْمَغْرِبُ، وَالْمَغْرِبُ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْآيَةِ لِاتِّصَالِ وَقْتِهَا بِغَسَقِ اللَّيْلِ الَّذِي هُوَ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ؛ فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَقِمْ الصَّلَاةَ لِزَوَالِ الشَّمْسِ، وَأَقِمْهَا أَيْضًا إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ؛ وَهِيَ صَلَاةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْأُولَى، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيُّ مَالِكًا فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: «مَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ لَزِمَتْهُ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ إذَا طَهُرَتْ وَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ»؛ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ اخْتِيَارٍ فَهُوَ وَقْتُ الضَّرُورَةِ وَالْعُذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ يُؤَخِّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ أَوْ يُعَجِّلَ الْعَصْرَ فَيُصَلِّيَهَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مَعَهَا، فَجَعَلَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقْتًا لَهُمَا فِي حَالِ الْعُذْرِ وَالضَّرُورَةِ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا اعْتِبَارًا صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنْ تَلْزَمَهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا، كَمَا أَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ فِي آخِرِ وَقْتِ الْعَصْرِ لَزِمَتْهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمِيعًا، وَقَدْ أَدْرَكَتْ هَذِهِ الَّتِي حَاضَتْ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مِنْ الْوَقْتِ مَا يَجُوزُ لَهَا فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِلْعُذْرِ؛ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الْعَصْرِ غَيْرُ وَقْتِ الظُّهْرِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ وَأَنَّهُ لَا تَلْزَمُ أَحَدًا صَلَاةُ الظُّهْرِ بِإِدْرَاكِهِ وَقْتَ الْعَصْرِ دُونَ وَقْتِ الظُّهْرِ.
وَقْتُ الْعَصْرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَوَقْتِ الْعَصْرِ وَاسِطَةٌ وَقْتٍ مِنْ غَيْرِهِمَا؛ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الظُّهْرِ أَنْ يَصِيرَ الظِّلُّ أَقَلَّ مِنْ قَامَتَيْنِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إذَا صَارَ الظِّلُّ قَامَتَيْنِ، فَهُوَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ، وَهِيَ أَيْضًا مُخَالِفَةٌ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعَصْرِ؛ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ حِينَ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ: «التَّفْرِيطُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الْأُخْرَى».
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ: إمَّا الْمِثْلَانِ وَإِمَّا الْمِثْلُ، وَأَنَّ بِخُرُوجِ وَقْتِ الظُّهْرِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ.
وَاتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْعَصْرِ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ آخِرَ وَقْتِهَا حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ، وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الْغُرُوبُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَاتَهُ الْعَصْرُ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»، فَجَعَلَ فَوَاتَهَا بِالْغُرُوبِ وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ»، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَهَا إلَى الْغُرُوبِ.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ وَقْتِ الْعَصْرِ حِينَ تَصْفَرُّ الشَّمْسُ»، فَإِنَّ هَذَا عِنْدَنَا عَلَى كَرَاهَةِ التَّأْخِيرِ وَبَيَانِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ، كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «آخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ نِصْفُ اللَّيْلِ» وَمُرَادُهُ الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ وَقْتِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ مُدْرِكَهُ بِالِاحْتِلَامِ أَوْ الْإِسْلَامِ يَلْزَمُهُ فَرْضُهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ وَلَمَا فَاتَهُ مِنْ وَقْتِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ».
فَقَدْ يَكُونُ وَقْتٌ يَلْزَمُ بِهِ مُدْرِكُهُ الْفَرْضَ وَيُكْرَهُ لَهُ تَأْخِيرُهَا إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُكْرَهُ الْإِسْفَارُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِمُزْدَلِفَةِ وَلَمْ تُخْرِجْهُ كَرَاهَةُ التَّأْخِيرِ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لَهَا؟ فَكَذَلِكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي فِيهَا تَقْدِيرُ آخِرِ الْوَقْتِ بِاصْفِرَارِ الشَّمْسِ وَارِدَةٌ عَلَى فَوَاتِ فَضِيلَةِ الْوَقْتِ الَّذِي جَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ.
وَقْتُ الْمَغْرِبِ أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ تَغْرُبُ الشَّمْسُ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَهُوَ يَقَعُ عَلَى الْغُرُوبِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَقَالَ تَعَالَى: {وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ} وَهُوَ مَا قَرُبَ مِنْهُ مِنْ النَّهَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَوْقَاتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} قِيلَ فِيهِ إنَّهُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ.
وَفِي أَخْبَارِ الْمَوَاقِيتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الْيَوْمَيْنِ جَمِيعًا حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ».
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: «كُنَّا نُصَلِّي الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ».
وَقَدْ ذَهَبَ شَوَاذٌّ مِنْ النَّاسِ إلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ يَطْلُعُ النَّجْمُ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو تَمِيمٍ الْجَيَشَانِيُّ عَنْ أَبِي بُصْرَةَ الْغِفَارِيِّ قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا مِنْكُمْ أُوتِيَ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَهَا حَتَّى يَطْلُعَ الشَّاهِدُ؛ وَالشَّاهِدُ النَّجْمُ».
وَهَذَا حَدِيثٌ شَاذٌّ لَا تُعَارَضُ بِهِ الْأَخْبَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَنَّهُ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ»؛ وَقَدْ رَوَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُثْمَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ أَبِي بُصْرَةَ فِي ذِكْرِ طُلُوعِ الشَّاهِدِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّجْمَ قَدْ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ اخْتِلَاطِ الظَّلَامِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكَادُ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُرَى بَعْضُ النُّجُومِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ جُعِلَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِرُؤْيَةِ النَّجْمِ لَوَجَبَ أَنْ تُصَلَّى قَبْلَ الْغُرُوبِ إذَا رُئِيَ النَّجْمُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النُّجُومِ قَدْ يُرَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ فِعْلُهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ مَعَ رُؤْيَةِ الشَّاهِدِ، فَسَقَطَ بِذَلِكَ اعْتِبَارُ طُلُوعِ الشَّاهِدِ.
وَأَمَّا آخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: «لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلٌ وَآخِرٌ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ».
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: «لَيْسَ لِلْمَغْرِبِ إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ».
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ لَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا فِي آخِرِ وَقْتِهَا، فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: «آخِرُ وَقْتِهَا أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ».
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الشَّفَقِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «الشَّفَقُ الْبَيَاضُ».
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ».
وَقَالَ مَالِكٌ: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ أَيْضًا فِي الشَّفَقِ مَا هُوَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «هُوَ الْبَيَاضُ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «الْحُمْرَةُ».
فَمِمَّنْ قَالَ إنَّهُ الْحُمْرَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ.
حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ شُعَيْبٍ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ الْعَصَّارُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ الْبَزَّازُ قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَيَّاجٍ عَمَّنْ ذُكِرَ عَنْ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ».
قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ».
قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ عَنْ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ يُصَلِّيَانِ الْعِشَاءَ إذَا غَابَتْ الْحُمْرَةُ وَيَرَيَانِهَا الشَّفَقَ».
فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ رُوِيَ عَنْهُمْ الْحُمْرَةُ.
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الشَّفَقَ الْبَيَاضُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ؛ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ شُعَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْقَاسِمِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرْجِ قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ الْكَلَاعِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ: «إنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَغِيبُ الشَّفَقِ»، وَمَغِيبُهُ إذَا اجْتَمَعَ الْبَيَاضُ مِنْ الْأُفُقِ فَيَنْقَطِعُ، فَذَلِكَ أَوَّلُ وَقْتِهَا.
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: «الشَّفَقُ الْبَيَاضُ».
قَالَ هِشَامٌ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَمَّنْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «الشَّفَقُ الْبَيَاضُ».
فصل:
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَحَسْبُ، قَوْله تَعَالَى: {أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ الْغُرُوبُ وَاحْتِمَالُ اللَّفْظِ لَهُ، فَاقْتَضَتْ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ لِوَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوَّلٌ وَآخِرُ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} غَايَةٌ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ غَسَقَ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ الظُّلْمَةِ، فَثَبَتَ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ حِينِ الْغُرُوبِ إلَى اجْتِمَاعِ الظُّلْمَةِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَقْضِي بِبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَهَا وَقْتًا وَاحِدًا مُقَدَّرًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ.